كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم قال: وهذا التقرير الذي ذكرته يدور على مقدمتين، كلتاهما صحيحة:
إحداهما- أن رفع الصوت من جنس ما يحصل به الإيذاء، وهذا أمر يشهد به النقل والمشاهدة الآن، حتى إن الشيخ ليتأذى برفع التلميذ صوته بين يديه. فكيف برتبة النبوة، وما تستحقه من الإجلال والإعظام.
المقدمة الأخرى- أن إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم كفر. وهذا أمر ثابت قد نص عليه أئمتنا- يعني المالكية- وأفتوا بقتل من تعرض لذلك كفرًا، ولا تقبل توبته، فما أتاه أعظم عند الله وأكبر، والله الموفق. انتهى.
ولا يخفى أن الإنصاف هو الوقوف مع ما أوضحه النص وأبانه، فكل موضع نص فيه على الإحباط وجب قبوله بدون تأويل، وامتنع القياس عليه، لأنه مقام توعد وخسران، ولا مجال للرأي في مثل ذلك. هذا ما أعقده وأراه. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
{إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}.
{إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ} أي: يبالغون في خفضها: {عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} قال ابن جرير: أي: اصطفاها وأخلصها للتقوى يعني لاتقائه بأداء طاعته، واجتناب معاصيه، كما يمتحن الذهب بالنار، فيخلص جيدها، ويبطل خبثها: {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} أي: ثواب جزيل، وهو الجنة.
{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}.
{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ} أي: يدعونك: {مِن وَرَاء} أي: خارج: {الْحُجُرَاتِ} أي: عند كونك فيها، استعجالًا لخروجك إليهم، ولو بترك ما أنت فيه من الأشغال: {أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} إذ لا يفعله محتشم، ولا يفعل لمحتشم، فلا يراعون حرمة أنفسهم، ولا حرمتك، ونسب إلى الأكثر، لأنه قد يتبع عاقل جماعة الجهال، موافقة لهم.
{وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
{وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ} أي: لأن خروجه باستعجالهم ربما يغضبه، فيفوتهم فوائد رؤيته وكلامه. وإن صبروا استفادوا فوائد كثيرة، مع اتصافهم بالصبر، ورعاية الحرمة لنبيهم وأنفسهم: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: لمن تاب من معصية الله، بندائك كذلك، وراجع أمر الله فيه، وفي غيره.
تنبيهات:
الأول- قال ابن كثير: قد ذكر أنها نزلت في الأقرع بن حابس التميمي، فيما أورده غير واحد.
روى الإمام أحمد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن الأقرع بن حابس؛ أنه نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! يا محمد!- وفي رواية: يا رسول الله!- فلم يجبه. فقال: يا رسول الله! إن حمدي لزين، وإن ذمّي لشين، فقال: «ذاك الله عز وجل».
وروى ابن إسحاق، في ذكر سنة تسع، وهي المسماة سنة الوفود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما افتتح مكة، وفرغ من تبوك، وأسلمت ثقيف وبايعت، ضربت إليه وفود العرب من كل وجه، فكان منهم وفد بني تميم. فلما دخلوا المسجد نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته: أن أخرج إلينا يا محمد! فآذى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من صياحهم، فخرج إليهم. ثم ساق ابن إسحاق نبأهم مطولًا ثم قال: وفيهم نزل من القرآن: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}.
الثاني: {الْحُجُرَاتِ} بضمتين، وبفتح الجيم، وبسكونها. وقرئ بهن جميعًا: جمع حجرة. وهي الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوّط عليها. فعلة بمعنى مفعولة، كالغرفة والقبضة.
قال الزمخشري: والمراد حجرات نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت لكل واحدة منهن حجرة. ومناداتهم من ورائها يحتمل أنهم قد تفرقوا على الحجرات، متطلبين له، فناداه بعض من وراء هذه، وبعض من وراء تلك، وأنهم قد أتوها حجرة حجرة، فنادوه من ورائها. وأنهم نادوه من وراء الحجرة التي كان فيها. ولكنها جمعت إجلالًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكمان حرمته. والفعل- وإن كان مسندًا إلى جميعهم- فإنه يجوز أن يتولاه بعضهم، وكان الباقون راضين، فكأنهم نولوه جميعًا.
الثالث- قال الزمخشري: ورود الآية على النمط الذي وردت عليه، فيه ما لا يخفى على الناظر من بينات إكبار محل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلاله.
منها- مجيئها على النظم المسجل على الصائحين به، بالسفه والجهل، لما أقدموا عليه.
ومنها- لفظ: {الْحُجُرَاتِ} وإيقاعها، كناية عن موضع خلوته ومقيله مع بعض نسائه.
ومنها- المرور على لفظها بالاقتصار على القدر الذي تبين به ما استنكر عليهم.
ومنها- التعريف باللام دون الإضافة.
ومنها- أن شفع ذمهم باستجفائهم واستركاك عقولهم، وقلة ضبطهم لمواضع التمييز في المخاطبات، تهوينًا للخطب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسلية له، وإماطة لما تداخله من إيحاش تعجزهم، وسوء أدبهم، وهلم جرا... من أول السورة إلى آخر هذه الآية.
فتأمل كيف ابتدئ بإيجاب أن تكون الأمور التي تنتمي إلى الله ورسوله، متقدمة على الأمور كلها، من غير حصر ولا تقييد. ثم أردف ذلك النهي عما هو من جنس التقديم من رفع الصوت والجهر، كأن الأول بساط الثاني، ووطاء لذكره. ثم ذكر ما هو ثناء على الذين تحاموا ذلك، فغضوا أصواتهم، دلالة على عظيم موقعه عند الله. ثم جيء على عقب ذلك بما هو أطم، وهجنته أتم، من الصياح برسول الله صلى الله عليه وسلم، في حال خلوته ببعض حرماته من وراء الجدر، كما يصاح بأهون الناس قدرًا، لينبه على فظاعة ما أجروا إليه، وجسروا عليه، لأن من رفع الله قدره عن أن يجهر له بالقول، حتى خاطبه جلّة المهاجرين والأنصار بأخي السرار، كان صنيع هؤلاء من المنكر الذي بلغ من التفاحش مبلغًا. ومن هذا وأمثاله يقتطف ثمر الألباب، وتقتبس محاسن الآداب، كما يحكى عن أبي عبيد- ومكانه من العلم والزهد وثقة الرواية ما لا يخفى- أنه قال: ما دققت بابًا على عالم قط، حتى يخرج في وقت خروجه. انتهى.
الرابع- قال ابن كثير: قال العلماء: يكره رفع الصوت عند قبره صلى الله عليه وسلم، كما كان يكره في حياته؛ لأنه محترم حيًا، وفي قبره صلى الله عليه وسلم. وقد روينا عن أمير المؤمنين عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع صوت رجلين في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم قد ارتفعت أصواتهما، فحصبهما. ثم ناداهما فقال: من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف. قال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضربًا. انتهى.
الخامس- روى البخاري عن عبد الله بن الزبير أنه قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: أمّر القعقاع بن مَعْبَد، وقال عمر: أمر الأقرع بن حابس. فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي! فقال عمر: ما أردت خلافك! فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما. فنزل في ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} حتى انقضت الآية.
وفي رواية: فأنزل الله في ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُواْ أَصْوَاتَكُم} الآية.
قال ابن الزبير: فما كان عمر يُسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه. وقد انفرد بهاتين الرايتين البخاري دون ومسلم.
قال الحافظ ابن حجر: وقد استشكل ذلك! قال ابن عطية: الصحيح أن سبب نزول هذه الآية كلام جفاة الأعراب.
قال ابن حجر: قلت: لا يعارض ذلك هذا الحديث، فإن الذي يتعلق بقصة الشيخين في تخالفهما في التأمير هو أول السورة: {لَا تُقَدِّمُوا} ولكن لما اتصل بها قوله: {لَا تَرْفَعُواْ} تمسك عمر منها بخفض صوته. وجفاة الأعراب الذين نزلت فيهم هم من بني تميم، والذين يختص بهم، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ} انتهى.
وتقدم لنا مرارًا الجواب عن أمثاله، بأن قولهم: نزلت الآية في كذا، قد يكون المراد به الاستشهاد على أن مثله مما تتناوله الآية، لا أنه سبب لنزولها.
قال الإمام ابن تيمية: قولهم نزلت هذه الآية في كذا، يراد به تارة سبب النزول، ويراد به تارة أن ذلك داخل في الآية، وإن لم يكن السبب. كما تقول: عنى بهذه الآية كذا. انتهى.
وبه يجاب عما يرويه كثير من تعدد سبب النزول، فاحفظه، فإنه من المضنون به على غير أهله. ولو وقف عليه ابن عطية لما ضعف رواية البخاري، ولما تمحل ابن حجر لتفكيك الآيات بجعل بعضها لسبب. وبعضها الآخر، في قصة واحدة. وبالله التوفيق. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} أي: فاستظهروا صدقه من كذبه، بطريق آخر كراهة: {أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} أي: قومًا براء مما قذفوا به بغية أذيتهم بجهالة لاستحقاقهم إياها، ثم يظهر لكم عدم استحقاقهم: {فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} أي: فتندموا على إصابتكم إياها بالجناية التي تصيبونهم بها، وحق المؤمن أن يحترز مما يخاف منه الندم في العواقب.
تنبيهات:
الأول- قال ابن كثير: ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات بني المصطلق. وقد روي ذلك من طرق. ومن أحسنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده من رواية مالك عن ابن المصطلق، وهو الحارث بن ضرار والد جويرية أم المؤمنين رضي الله عنها. قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن سابق، حدثنا عيسى بن دينار، حدثني أبي أنه سمع الحارث بن ضرار الخُزَاعِي رضي الله عنه يقول: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاني إلى الإسلام، فدخلت فيه، وأقررت به، ودعاني إلى الزكاة، فأقررت بها وقلت: يا رسول الله! أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام، وأداء الزكاة، فمن استجاب لي جمعت زكاته، وأرسل إليّ يا رسول الله رسولًا إبّان كذا وكذا ليأتيك بما جمعت من الزكاة.
فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له، وبلغ الإبّان الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه، احتبس عليه الرسول، فلم يأته، وظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله تعالى ورسوله، فدعا بسروات قومه، فقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وقّت لي وقتًا يرسل إلي رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة، وليس من رسول الله الخلف، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة، فانطلقوا فنأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة. فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فَرِقَ، فرجع حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن الحارث منعني الزكاة، وأراد قتلي. فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم البعث إلى الحارث.
فأقبل الحارث بأصحابه، حتى إذا استقبل البعث، وفصل من المدينة، لقيهم الحارث، فقالوا: هذا الحارث! فلما غشيهم قال لهم: إلى من بعثتم؟ قالوا: إليك. قال: ولِمَ؟ قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعث إليك الوليد بن عقبة، فزعم أنك منتعته الزكاة، وأردت قتله! قال: لا، والذي بعث محمدًا بالحق، ما رأيته بتة، ولا أتاني. فلما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «منعت الزكاة، وأردت قتل رسولي؟!» قال: لا، والذي بعثك بالحق! ما رأيته بتة! ولا أتاني! وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم! خشيت أن تكون كانت سخطة من الله تعالى ورسوله. فنزلت الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} إلى قوله: {حَكِيمٌ}.
وقال مجاهد وقتادة: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق يتصدقهم، فتلقوه بالصدقة، فرجع فقال: إن بني المصطلق قد جمعت لك لتقاتلك- زاد قتادة: وإنهم قد ارتدوا عن الإسلام، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله عنه إليهم، وأمره أن يتثبّت ولا يعجل، فانطلق حتى أتاهم ليلًا، فبعث عيونه، فلما جاءوا أخبروا خالدا رضي الله عنه أنهم مستمسكون بالإسلام، وسمعوا أذانهم وصلاتهم. فلما أصبحوا أتاهم خالد رضي الله عنه فرأى الذي يعجبه. فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فأنزل الله تعالى هذه الآية. قال قتادة فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «التثبت من الله، والعجلة من الشيطان». وكذا ذكر غير واحد من السلف، منهم ابن أبي ليلى، ويزيد بن رومان، والضحاك، ومقاتل، وغيرهم في هذه الآية، أنها نزلت في الوليد بن عقبة- والله أعلم- انتهى.
قال ابن قتيبة في (المعارف): الوليد بن عقبة بن أبي معيط بن أبي عَمْرو بن أمية ابن عبد شمس، وهو أخو عثمان لأمه أروى بنت كريز. أسلم يوم فتح مكة، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقًا إلى بني المصطلق، فأتاه فقال: منعوني الصدقة! وكان كاذبًا. فأنزل الله هذه الآية. وولّاه عمر على صدقات بني تغلب، وولاه عثمان الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص، فصلى بأهلها صلاة الفجر، وهو سكران، أربعًا، وقال: أزيدكم؟! فشهدوا عليه بشرب الخمر عند عثمان، فعزله وحدّه. ولم يزل بالمدينة حتى بويع علي، فخرج إلى الرقة فنزلها، واعتزل عليًا ومعاوية. ومات بناحية الرقة.
الثاني- في (الإكليل): في الآية رد خبر الفاسق، واشتراط العدالة في المخبر، راويًا كان، أو شاهدًا، أو مفتيًا. ويستدل بالآية على قبول خبر الواحد العدل. قال ابن كثير: ومن هنا امتنع طوائف من العلماء من قبول رواية مجهول الحال، لاحتمال فسقه في نفس الأمر، وقبلها آخرون، لأنا إنما أمرنا بالتثبت عند خبر الفاسق، وهذا ليس بمحقق الفسق لأنه مجهول الحال.
الثالث- في قوله تعالى: {فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} فائدتان:
إحداهما- تقرير التحذير وتأكيده. ووجهه هو أنه تعالى لما قال: {أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} قال بعده: وليس ذلك مما لا يلتفت إليه، ولا يجوز للعاقل أن يقول: هب أني أصبت قومًا، فماذا علي؟ بل عليكم منه الهم الدائم، والحزن المقيم. ومثل هذا الشيء واجب الاحتراز منه.
والثانية- مدح المؤمنين: أي: لستم قال المهايمي: إذا فعلوا سيئة لا يلتفتون إليها، بل تصبحون نادمين عليها- أفاده الرازي-.
{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ}.
{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره لأصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم: واعلموا أيها المؤمنون بالله ورسوله أن فيكم رسول الله، فاتقوا الله أن تقولوا الباطل، وتفتروا الكذب، فإن الله يخبره أخباركم، ويعرفه أنباءكم، ويقوّمه على الصواب في أموره.
{لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} قال الطبري: أي: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمل في الأمور بآرائكم، ويقبل منكم ما تقولون له، فيطيعكم، لنالكم عنت- يعني الشدة والمشقة- في كثير من الأمور، بطاعته إياكم، لو أطاعكم، لأنه كان يخطئ في أفعاله، كما لو قبل من الوليد بن عقبة قوله في بني المصطلق، أنهم قد ارتدوا ومنعوا الصدقة وجمعوا الجموع لغزو المسلمين، فغزاهم فقتل منهم، وأصاب من دمائهم وأموالهم، كان قد قتل وقتلتم من لا يحل له ولا لكم قتله، وأخذتم من المال ما لا يحل له ولكم أخذه من أموال قومٍ مسلمين، فنالكم من الله بذلك عنت. والعنت: المشقة، أو الهلاك، أو الإثم، أو الفساد.